مغارة الحليب: أسطورة حليب العذراء
أسامة العيسة
يقطع الراهب الفرنسيسكاني لورنس، الطريق الملتوية من مغارة الحليب، حيث يمضي يومه، إلى مكان نومه في دير الفرنسيسكان بجانب كنيسة المهد، عندما يحلّ الظلام على مدينة بيت لحم، بكثير من الثقة، والأمل بالعودة في الصباح مرة أخرى إلى المغارة، ليستقبل السياح والحجاج والزوار المحليين والأجانب.
لعل لورنس، في طريقي الذاهب والعودة، يتذكر أصعب الأيّام التي مرّ بها، خلال حصار كنيسة المهد في نيسان وأيار 2002م، حين مكث في المغارة نحو 40 يوما محاصرا، بينما كان رفاقه الرهبان محاصرين في كنيسة المهد، وكان رغم كل شيء أفضل حالا منهم، حيث كان يتزود بالطعام من دير قريب للراهبات.
ارتبط لورنس، أميركي الجنسية، بالمغارة، التي ترتبط لدى السكان المحليين والزوار والحجاج الأجانب، بتقليد يتعلق بالسيدة مريم العذراء، حيث تقول الحكاية، بانه خلال هرب العذراء مع ابنها السيد المسيح وزوجها يوسف النجّار، من بطش الملك هيرودس، لجأت إلى هذه المغارة، وسقطت نقطة من حليبها في المكان، فتحولت إلى اللون الأبيض. وهي في الواقع عبارة عن مغارة كبيرة أو عدة مغر متصلة مع بعضها البعض.
جميع الأمراض..!!
التقاليد المحلية حول المغارة تشير إلى قدرة التربة التي تؤخذ من المكان على معالجة العقم، وإدرار الحليب، ولكن الأمور تطورت مع الأيّام، لتصبح بالنسبة للبعض، تشفي من جميع الأمراض.
ويعمد الزوار على شراء تربة المغارة الجيرية، التي تتوسع باستمرار نتيجة قرون من النحت، يُحَضّرها الراهب لورنس، في أكياس صغيرة، يأخذونها معهم إلى بلدانهم.
أحد الحجاج الأجانب، قال بانه يعتقد بقدرة تراب بيت لحم الجيري الأبيض هذا، على الشفاء من الأمراض المختلفة، وآخرون كثر غيره وضعوا صورهم وقصصهم داخل المغارة التي تقع في نهاية الشارع الذي يحمل اسمها، والمحاذي لكنيسة المهد.
يبدو سقف المغارة أسود بسبب الشموع التي يضيئها المؤمنون، ويزور المغارة بشكل دائم نساء مسلمات ومسيحيات يأخذن من تراب المغارة ويستخدمنه بعد إذابته في الماء الساخن، للشفاء من الأمراض، وهو ما يفعله أيضا حجاج يأتون من مختلف أنحاء العالم، وبعد أن يشفون من أمراضهم، يعود بعضهم إلى المغارة ليسجلوا قصصهم مصورة في ركن في المغارة المتسعة، وهو ما يعتبر دعاية هامة للمغارة.
أحد الرهبان الشبان، يعتقد، بان ما يقول عنه الناس بأنه الجير المكون للمغارة، ليس جيرا، ولكنه شيء شبيه بالحليب. ويعتقد جازما بقدرة تراب المغارة الذي يؤخذ من سقفها على الشفاء من كافة الأمراض ومن بينها السرطان، ودليله هو القصص التي تحدّث عنها أصحابها بعد شفائهم من أمراضهم وأرجعوا ذلك للمغارة وترابها المقدس. ومن بين القصص اللافتة، تلك التي تتعلق بامرأة كانت مصابة بشلل، وشفيت وأصبحت قادرة على السير بفضل ما تناولته من تراب المغارة المقدسة، كما أظهرت صورها وكلامها المكتوب.
منذ القرن السادس
ولا يقر كثيرون بالقوة الخارقة للمغارة وحليبها على شفاء شيء، ولكن هذا لا يهم المشرفين عليها، ما دامت المغارة تكتسب شهرتها في التقليد المسيحي، كواحدة من أهم المزارات الدينية في الأراضي المقدسة. ويطلق على المغارة أسماء أخرى مثل (مغارة السيدة) و(مغارة ستنا مريم) ولكن الأشهر هو (مغارة الحليب). وحسب ما هو معروف، فان المغارة أصبحت مقصدا للحجاج منذ القرن السادس الميلادي، ويحرص كل منهم على أخذ قطعة منها كتذكار من الأرض المقدسة. وذكر المؤرخ الراحل حنا جقمان: "كانت العادة أن تدق قطعة من صخر المغارة ثم تُكبس على شكل قطعة صغيرة، وأقدم نموذج معروف من هذا النوع واحدة في مدينة اوفيدو في أسبانيا منذ القرن السابع، والثانية قدمت هدية إلى شارلمان الكبير بعد سنة 800م، حُفظت في كنيسة مدينة بيكاردي في فرنسا، واخذ جيرارد الثالث أسقف بيت لحم قطعة من هذا النوع، بركة إلى معسكر الملك بالدوين الثالث قائد حملة الصليبيين في أثناء محاصرته مدينة عسقلان في سنة 1123م".
ويضيف جقمان: "أصبح لصخرة المغارة صفة احترام ديني وساد اعتقاد بأن قليلا من تراب هذه المغارة إذا رُش على ثدي المرضع زاد إدرارا للحليب، وصار هذا الاستعمال شائعا طوال قرون طويلة حتى مطلع القرن العشرين، فتذهب النساء المسيحيات والمسلمات على السواء إلى هذه المغارة للتبرك وترش كل امرأة قليلا من حبات تراب المغارة على ثديها، فيزداد حليبهن".
ونُقل هذا التقليد إلى أوروبا عام 1250م، وأدى الحفر في المغارة لأخذ ترابها أو قطعة منها، طوال سنوات، إلى اتساعها الذي يظهر الان. وفي العهد الصليبي بُنيت كنيسة في المكان، ولكنها دُمرت لاحقا
توجد في مدخل المغارة لوحة كُتب عليها: "بارك يا رب من تعبوا في بناء هذه الكنيسة، وأعط الراحة الأبدية لنفوسهم" ويشير تاريخها إلى عام 1838م. ومكنت تبرعات من السكان المحليين إلى إحداث تغييرات على المغارة، مثل بناء أقواس وزخارف في مدخلها، وتزيين الدرج المؤدي إليها. ويمكن أن يكون أهم شيء عمل بهذا الخصوص، هو ما أنجزه فنانون محليون في القرن التاسع عشر من نقش صور لحكاية العذراء وطفلها على الحجارة، ومثبتة على مدخل المغارة، وتلفت هذه النقوش خصوصا الزائرين الأجانب، وأصبح بعضها في ذهن المتابعين مرتبطا باسم المغارة.
سائر بلاد الشام وأوروبا
ولعقود طويلة كانت الباحة أمام المغارة، المكان المفضل لسكان بيت لحم المسلمين والمسيحيين، لإقامة صلوات الاستسقاء، ويعتقد هؤلاء بثقة كبيرة بان الأمطار كانت تهطل بغزارة بعد كل صلاة من هذا النوع. وتقام في المغارة بشكل منتظم قداديس خاصة بأعياد السيدة العذراء، خاصة في 15 آب من كل عام الذي يصادف عيد انتقال العذراء إلى السماء. وفي عصر كل يوم من شهر أيار تقام صلوات خاصة مكرسة لمريم العذراء. وما لا يعرفه كثيرون من السكان المحليين والحجاج الأجانب عن مغارتهم الأثيرة، أن لها تاريخ أقدم من قصة المسيح، عليه السلام، فكانت حفريات أجريت في مطلع القرن العشرين كشفت على ان المكان كان مسكونا منذ العصر الحديدي، وكشفت الحفريات أيضا عن قبور تعود للعهدين البيزنطي والصليبي وأرضيات فسيفسائية.
كتب الكثير من الرحالة عن مغارة الحليب. مثلا في شهر تموز 1885 زارت ماري اليزا روجرز بيت لحم وتحدثت عن معجزات مغارة الحليب، وروت بأنها رأت امرأة تُعلق صُرّة صغيرة في رقبتها تحتوي على فتات الحجر الابيض المأخوذ من مغارة الحليب، وعلمت بان: "الامهات يتلهفن للحصول على فتات حجارة هذه المغارة وتعليقها على صدورهن جلبا للبركة".
وذكرت بنوع من التفسير النفسي: "خضعت هذه المغارة، التي هي عبارة عن كهف ذي جدران من الحجر الجيري الأبيض، لحفريات استكشافية على مر القرون، بسبب البركة المفترضة لحجارتها. تحظى هذه الحجارة وفتاتها بالتبجيل والاحترام في سائر أنحاء بلاد الشام، وفي العديد من البلدان في أوروبا. وكثيرا ما رأيت استخدامات ناجحة لها. يبدو لي بان عدم احتفاظ السيدات المتوترات، واللاتي يعانين من القلق، بقطعة من هذه الذخائر، يؤدي إلى نقص ادرار الحليب لديهن، وفي حالات كهذه لا تجدي الاستعانة بالأعشاب الطبية والادوية ولا حتى القابلات والأطباء نفعا، لكن السكينة وراحة البال تعودان فور تدبير فتات هذه الحجارة، خصوصا إذا ما تم ذلك على يدي احد الكهنة، وتأتي النتائج سارة بعد ذلك على الفور. من الممكن تفسير العديد من الخوارق المزعومة بهذه الطريقة".
مرسلة بواسطة أسامة العيسة في 6:02 م
في بيت لحم: كنيسة المهد ومغارة الحليب (٢)
محمد حسين هيكل
جريدة السياسة الأسبوعية
١٠ يونيو ١٩٣٧
هبطنا إلى مغارة المهد على درجٍ نُقِر في الحجر أدى بنا إلى قبو أعاد إلى ذاكرتي ما يشهده الإنسان في مقابر بيبان الملوك بالأقصر، وإن كان قبو هذا المهد ضيقًا إذا قِيسَ إلى أكثر ما يراه الإنسان من أقبية هذه البيبان. ووقفنا إلى اليمين أمام نقر في الصخر مرتفع إلى قامة الإنسان، وقد وُضِعت فيه صورة العذراء، وثبتت فيه نجمة من الفضة إلى مكانٍ ذكَرَ الأستاذ عيسى بندك أنه مكان مولد المسيح، وأن هذه النجمة تحدده تحديدًا دقيقًا في رأي الطوائف المسيحية، وهذه النجمة كثيرًا ما كانت تُنزَع من مكانها حين كانت تتقرب بها طائفة من الطوائف المسيحية مصنوعة من الذهب أو مرصعة بالماس، ثم كانت طائفة أخرى تضع نجمة من صنعها مكانها. وقد انتهى الأمر بالسلطات إلى وضع هذه النجمة من الفضة حتى لا تختلف الطوائف على ملكيتها.
وأضاف الأستاذ عيسى أن عيد الميلاد له في هذا القبو مظهر بين الطوائف يوجب على السلطة المحلية أن تتخذ له أهبتها. ففي ساعة معينة، وفي دقائق معينة من تلك الساعة، تُوضَع أيقونة فوق نجمة الميلاد. ولما كانت هذه الأيقونة لطائفة بذاتها، فلا يجوز أن يتجاوز وضعها الزمن المحدد مخافةَ أن يكسب بقاؤها هذه الطائفة حقًّا على حساب الطائفتين الأخريين؛ لذلك نرى ممثلي السلطة حريصين أشد الحرص مخافة أن تبقى الأيقونة بعد موعدها بفعل هذه الطائفة حذر ما ينشأ عن ذلك من التحام بينها وبين الطوائف الأخرى.
واستدرنا إلى مقابل مكان نجمة الميلاد، فإذا حوض من الحجر موضوع في الأرض. قال الأستاذ عيسى: «هذا مكان المِذْوَد الذي كانت الأبقار تأكل فيه، والذي وضعت مريم فيه طفلها؛ ليقيه الدفء الذي يبعث به تنفس الأبقار من قر الجو في ذلك الفصل القرير، فصل ميلاد عيسى.» وألقيت نظرةً إلى هذا المِذْوَد، أو هذا الحوض من الحجر الذي يمثله، ثم عدت بنظري إلى ناحية نجمة الميلاد، وعجبت أن تكون النجمة في المكان الذي تم فيه الوضع، فهي كما ذكرت مرتفعة إلى ما يقرب من قامة الرجل، أو دونها بقليل، وهذا المِذْوَد موضوع في منحدر لا يبعد عنها ثلاثة أمتار، وينحدر دونها قرابة مترين. فإن يكن تحديد الأماكن هاهنا دقيقًا، فقد كانت مريم لا ريب فوق أكمة ساعة الوضع، وكانت هذه الأبقار، وكان مِذْوَدها في سطح هذه الأكمة. أم لعلها لم تكن أكمة، بل كانت مغارة في هذا الجبل حيث تكثر المغارات، عند ذلك ذكرت قوله تعالى في سورة مريم: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) (٢٣–٢٦). تُرَى أيصلح هذا الجبل لتنبت فيه نخلة يجيء المخاض مريم إلى جذعها؟ وهل كان هذا السريُّ الذي أشارت إليه الآية، والذي يشير الكثيرون من المفسرين إلى أنه الغدير الذي تشرب منه مريم، بعض ما اجتمع من ماء المطر على الجبل، أو أنه كان غديرًا منتظم الجريان ما انحطت المياه إليه؟ وإذا كان هذا الجبل غير صالح لإنبات النخل، فهل من سبيل إلى التوفيق بين رواية القرآن وهذا الذي أرى؟ ولم يكن الوقت ليسعفني بجواب على ما أسأل عنه؛ لذلك انصرفت إلى الأستاذ عيسى أسمع إليه وهو يقول: «لعل إمساء الوقت لا يحول بيننا وبين رؤية مغارة الأطفال هذا المساء، فَلْنصعد لعلنا نرى القسيس الذي يتقدمنا إليها.»
وصعدنا إلى الكنيسة، ووقف الأستاذ عيسى يسأل، لكن الوقت كان قد أمسى، ولم يكن القسيس حاضرًا، وكذلك لم نَزُرْ مغارة الأطفال إلا حين جئنا يوم الجمعة ١١ يونيو.
ولم ندخل الكنيسة يومئذٍ، ولا سلكنا إليها طريق ذلك الباب الضيق الذي لا يرتفع إلى قامة الإنسان، والذي دخلنا منه من قبلُ، بل استدار بنا الأستاذ عيسى إلى يسار ساحة الكنيسة في طريق مؤدٍّ إلى ما يشبه المنزل، وإلى باب ليس مما أَلِف الناس أن يكون لكنيسة، ولكنه باب لمنزل أو نحوه، وسألت فعملت أن المنزل دير للقس. وجاوزناه ودخلنا طريقًا إلى الكنيسة يمر بين بناء المنزل وجدار تطل نافذة فيه على سفح الجبل، ثم يتصل الجدار بمبانٍ نسيت ماهيتها. ودخلنا إلى بناء الكنيسة من ناحيةٍ غير التي دخلنا من قبلُ منها، يتقدمنا قسيس قدَّمني الأستاذ عيسى إليه وما نزال عند الباب الأول، فحيَّانا أجمل تحية وبالغ في الترحيب بنا. ولم نسر في هذه الناحية من الكنيسة إلا ريثما درنا إلى درج هبطنا عليه، فكنا إذ نزلنا في سلسلة من المغارات لا يعرف مساربها إلا أهلها.
كانت أولى هذه المغارات تحتوي صورة قديس قضى فيها ثلاثًا وعشرين سنة — إن لم أكن نسيت عدد هذه السنين — ينقل الإنجيل إلى العبرية أو إلى العربية، لست أذكر. ثم انتقلنا منها إلى مغاراتٍ أخرى روى القسيس عنها قصصًا من نوعٍ آخر، وفي أكثر من واحدة من هذه المغارات صور زيتية جميلة تمثل المشهد الذي تخلِّد المغارةُ، أو تخلِّد الصورةُ ذكرَه. وانتهينا آخِر الأمر إلى مغارة الأطفال.
ومغارة الأطفال ليست مفتوحة يتخطى الناس خلالها كما يتخطون خلال المغارات الأخرى، بل ينظرون إليها من نافذة في مغارة مجاورة، وقصة مغارة الأطفال هذه أن هيرودس حاكم فلسطين من قِبَل رومية رأى في منامه رؤيا أفزعته، فطلب إلى أهل العلم بالأحلام والرؤى أن يفسروها له، فذكروا أن من بين الأطفال الذين وُلِدوا في الأعوام الثلاثة أو الخمسة الأخيرة طفل سيكون له شأن يقضُّ مضجع الإمبراطورية ويسوء أثره بها. ورأى هيرودس أن الخير في قتل الأطفال الذين وُلِدوا في هذه الفترة جميعًا، وقتلهم ودفنهم في هذه المغارة، وكان عيسى قد وُلِد في هذه الفترة وأوحي إلى أمه بما استقر عليه رأي هيرودس، ففرت بابنها إلى مغارة الحليب حيث أقامت حتى ارتكب هيرودس جريمته الشنعاء وقتل من قتل من الأطفال وألقى بهم في هذه المغارة. ثم إنها تحملت بابنها راكبة حمارًا وسارت به حتى بلغت مصر، وهناك أقامت وإياه ثلاث سنوات عادت به بعدها إلى مسقط رأسه ومقر آبائها وأهلها في فلسطين.
وقد يثير العجب أن تكون مغارة الأطفال قريبة كل هذا القرب من مغارة المهد، ولكن لا عجب في إرادة الله، وإذا صحت الرواية التي يذكرونها في تحديد مغارة المهد ومغارة الأطفال كانت هذه آية من آيات الله يبصر بها عباده المتقين.
وأتممنا التنقل بين المغارات، ثم عدنا من حيث أتينا وخرجنا نقصد مغارة الحليب، وفيما نحن في طريقنا قال الأستاذ عيسى بندك: «لقد تتبعت تاريخ المسيح في مختلف أطواره ووقفت على كل ما قيل عنه في مولده وحياته ومعجزاته وصلبه وصعوده، لكني لم أستطع الوقوف على أمره وأمر العذراء حين مقامهم بمصر؛ فهذه الفترة من تاريخهما غامضة عندي.» ولم أجد ما أجيب به الأستاذ عيسى، فإنني لم أدرس حياة المسيح بأكثر مما قرأته عنها في كتب لم تذكر عن مقامه بمصر شيئًا، ولست أذكر أنني رأيت في «حياة عيسى» لرينان شيئًا عن هذه الفترة. وقد وضع أحدهم أخيرًا كتابًا بالعربية عنوانه «حياة يسوع» اطلعت عليه فلم يقفني فيه شيء عن هذه الفترة، ولعل أحدًا من إخواننا أقباط مصر أو من قسسها يعرفون من ذلك ما لو نشرته هذه الجريدة لروى من نفس الأستاذ عيسى ظمأً للمعرفة كان باديًا عليه وهو يحدثني هذا الحديث.
وخرجنا من ساحة الكنيسة فأقلتنا السيارة في طريق إلى يمينها، ثم وقفت عند باب من أعواد الحديد، تخطيناه ونادى صاحبي براهب مغارة الحليب، فقد كانت هذه هي المغارة، وفيما يلبي الرجل دعاءنا نبَّهني الأستاذ عيسى إلى أنه أسباني لا يعرف العربية، ولا يعرف الفرنسية، ولا الإنجليزية، وأنه يعيش هاهنا عيشة رهبانية وتبتل، ينفق من وقته في العبادة ما يشاء الله، وينفق ما وراء ذلك في العناية ببستان صغير له متصل بالمغارة يطل بابه على ردهة مدخلها.
وأقبل الرجل الأسباني في ثوبه الأسود فرد تحية الأستاذ عيسى بأحسن منها، وفتح لنا باب المغارة فهبطنا إليها، إن بينها وبين مغارات كنيسة المهد من الفرق ما لا مساس للطبيعة به، فهذه المغارات وتلك متشابهة من حيث الطبيعة، لكنها تختلف فنًّا وصناعة كما يختلف فن الغرب عن فن الشرق. وإن الإنسان ليشعر لأول وهلة إذ ينزل إلى مغارة الحليب بمثل شعوره إذ يدخل مغارات «بياتس هلهن» في سويسرا، فأنت يقابلك أول ما تدخل تمثال صغير للعذراء والمسيح على حمار يسير إلى جانبه رجل لم أَدْرِ لعله يوسف النجار. والتمثال في تكوينه يصور مسيرة القوم في طريقهم إلى مصر، ثم ينحدر الإنسان بعد ذلك إلى المغارة فيقف أمام نافذة مقفلة بالزجاج مطلة عليها. وما لبثنا حين وقفنا أن أضاء لنا القسيس أنوار الكهرباء منظَّمة نظامًا جميلًا يلون المغارة ألوانًا من النور تزيدها مهابة ورهبة. ويستدير الإنسان فإذا كنيسة يُخيَّل إليك كأنها منقورة في الصخر، وإن كانت الأنوار تهبط إليها من أعلاها المتصل بنور النهار. وثمة إلى جانب الكنيسة الأيمن صورة للعذراء تضيئها الكهرباء، ويحيط بها إطار من هذه الأنوار الكهربائية يضيئها القسيس فتلقي على ما حولها نورًا قويًّا باهرًا.
لم يحدثنا القسيس أثناء ذلك ولم يقل كلمة واحدة؛ لأنه لا يعرف لغة نعرفها، ولم نكن بحاجة إلى شرحه، ومغارة الحليب حيث كانت مريم ترضع عيسى قبل سفرهما إلى مصر معروفة، وهي القدس الذي يزار في المكان كله. أما وقد قضينا من زيارته وَطَرَنا فَلْنخرج ونُلْقِ نظرةً إلى حديقة الراهب ونحن في بهو مغارته وكنيسته.
***
خرجنا من هذه المغارة وإني لَأذكر لمشهد هذه الآثار التي حفظها الفن من مولد عيسى عليه السلام ذلك الحديث الذي دار بيني وبين مسيحيٍّ مثقفٍ في مصر، حين كنت أفكر في السفر إلى الحجاز، فقد قال: «إنك سترى في بلاد العرب من آثار النبي العربي أنباء يرويها التاريخ وتؤيدها أخبار، على خلاف ما نرى نحن في فلسطين حين نزور آثار السيد المسيح فتدهمنا الأساطير بما يكاد يختفي معه كل أثر للتاريخ.» ذكرت هذه العبارة وفكرت فيما كان للفن من أثر في الحياة الدينية المسيحية بنوعٍ خاص، وفي الحياة الدينية بوجهٍ عام. فقد كان لرافايل وميكلانجلو وأمثالهم من أساتذة الفن في عصرهم أثر في الحياة الدينية بالغ. وأنت إذ تدخل الكنائس والمعابد في إيطاليا وفي غير إيطاليا من البلاد المسيحية، ترى من آثار هؤلاء ومن تصويرهم للحياة الدينية في صميمها ما كان له أعمق الأثر في العقائد وفي تصويرها في النفوس، وإذا لم يكن وحي الأديان، مما يمكن إنكاره في هذه الناحية، فإن ما تخاطب الصور والتماثيل به الحس مباشرةً ومن غير واسطة العقل أو الخيال يجعلها أقوى أثرًا وأبقى في النفس من الآثار الأدبية.
ولقد كان للموسيقى والغناء من الأثر ما للتصوير وما للتماثيل، بل هما سبقَا إلى المعابد منذ كانت عمارة المعابد في بساطتها الأولى. ولا أدل على ذلك من أنَّا نتلو مزامير داود في الكتب المقدسة الأولى، ونسمع بترانيم المسيحيين الأولين قبل أن تنشأ الكنيسة، وقبل أن يُبنَى لها مكان واحد في العالم كله. وكذلك تعاونت الفنون المختلفة، ومنها الأدب والشعر، على تصوير العاطفة الدينية وتوجيهها على نحوٍ كان ظاهرَ الأثرِ في المسيحية ظهورًا جليًّا.
ولعل مَن يقول إن المسيحية قد أمَدَّتِ الفنون بوحيها بمقدار ما كان للفنون من أثر في توجيه كنائسها، لا يكون مغاليًا هو الآخَر، فهذه المزامير والتراتيل، وهذه الموسيقى التي يصدح بها الأرغن، وهذه الصور والتماثيل التي تصف حياة المسيح والعذراء والقديسين، والتي تصور الملائكة والشياطين، والتي تحدثت عن ملكوت الله، وهذا الفردوس المفقود، ثم هذا الفردوس المستعاد لملتن، و«كوفاديس» لستنكفيكز، وعشرات بل مئات غيرها من آثار الفن البديعة هذه كلها إنما يرجع الوحي بها إلى المسيحية وكنائسها، وهذه كلها كانت قوية الأثر في حياة الإنسانية كلها، لا في حياة المسيحية وحدها. وحسبك مثلًا لذلك ما كان الصليبيون يثارون به لحرب المسلمين ابتغاءَ استرداد أورشليم والأماكن المسيحية المقدسة، وما خلفت هذه الحروب الصليبية في حياة الإنسانية كلها من أثر لتقدر ما بين المسيحية وكنائسها وبين الفنون الجميلة من اختلاف صورها وألوانها من أوثق الصلات.
منذ رأيت كنيسة المهد حرصت على أن أرى ما خلفت الأجيال من آثار تصف حياة السيد المسيح، وكنت أود لو استطعت أن أزور الناصرة وأن أدور حول بحيرة طبرية، وقد تحدثت في هذا إلى أصحابي الذين توثقت مودتي وإياهم بالقدس، لكنهم ذكروا لي من وقوع الناصرة وطبرية في شمال فلسطين وبُعْدها عن بيت المقدس ما جعلني أفكر في الأمر مليًّا. ولو أن الأمر كان متروكًا لاختياري وحدي لطاوعت نفسي ولذهبت إلى الناصرة ووقفت على آثار طبرية، لكن اختياري أثناء مقامي بالقدس كان قد خرج أكثره من يدي؛ إذ أصبح تنظيم وقتي وغدواتي وروحاتي إلى هؤلاء الأصحاب. لذلك لم يكن بد من الاكتفاء بآثار السيد المسيح في القدس وما حواليها، ولم يكن لذلك بد من أن أنتقل بتصوري من كنيسة المهد حيث وُلِد، إلى كنيسة القيامة حيث دُفِن قبل الصعود، لأشهد بعد ذلك جبل الزيتون وما يتصل به من آثار.
فَلْيعذرني القارئ إذا انتقلت به بعد هذا الفصل عن كنيسة المهد إلى كنيسة القيامة، فليس الذنب في ذلك ذنبي، وإني لا أكتب التاريخ فأسلسله، وإنما أسجل مشاهدات لم يكن لي من الاختيار في تنظيمها غير حظ قليل.